أطفال القدس .. يكبرون سريعاً

هنادي قواسمي – القدس المحتلة

رامي (اسم مستعار) يبلغ من العمر 8 سنوات، ويعيش في أحد أحياء البلدة القديمة في القدس المحتلة. تجاور بيت عائلته الصّغير جداً عدة بيوت تم تسريبها للمستوطنين، وتتوزع على أزقة حارته كاميرات مراقبة للاحتلال وحراس أمن يوفرون الحماية للمستوطنين ويعتدون على أهالي البلدة الفلسطينيين.

 بثقة كبيرة – وكأنه خبير في الأمر – شرح لنا رامي ذو الثماني سنوات من هم “العصافير”. لا إنهم ليسوا تلك المخلوقات الطائرة التي نستيقظ على زقزقتها صباحاً كما يعرف أغلبية الأطفال في عمره. “العصافير” هو تعبير يطلق على أولئك الذين يوهمون المعتقل الفلسطيني في سجون الاحتلال بأنهم معتقلون فلسطينيون مثله، يحشرون معه في نفس الزنزانة، ويبدأون بسؤاله عن تهمته وتفاصيل حياته، لاستخدام ما يقوله لهم كاعتراف ومن ثمّ ادانته.

وهو مستمتع ببعض الحلوى يأكلها، يحذرنا رامي أنه في حال تعرضنا للاعتقال يجب أن لا نثق بالعصافير ولا نقول لهم أي شيء. نصيحة أخرى أسداها لنا رامي أن لا نكترث لكلّ ما يقول المحقق. “بقولولك أنه عندهم صور إلك وأنت تضربي حجار.. قولي أنه هذه مش انت.. وخلص”.

اكتسب رامي هذه “الخبرة” الأوليّة في التعامل مع تجربة الاعتقال لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد أن اعتقل أخوه سامر (اسم مستعار) 14 عاماً مطلع العام الحالي. وجهت لسامر لائحة اتهام باطلاق زجاجات حارقة على جنود الاحتلال، ولما يصدر الحكم بحقه بعد، ولكن من المتوقع أن يُسجن 4 شهور على الأقل. كما أن أخ ثالث عمره 10 سنوات تعرض للاعتقال لبضعة ساعات قبل أن يفرج عنه.

أصبح أخوة سامر وكلّهم أصغر منه يعرفون قاموساً جديداً من الكلمات : “حبس منزلي، لائحة اتهام، محكمة..”. وبعض الأطفال ممن لا يعرفون اللغة العبرية بتاتاً، تعرفوا إلى بعض كلماتها من خلال تجربة الاعتقال التي خاضوها بأنفسهم أو خاضها أحد المقربين منهم. فتجده يكرر التعابير التي سمعها في المحكمة أو من المحامي باللغة العبرية، ولا يعرف غيرها.

وهكذا تجد الكثيرين من أطفال القدس، فلا تكاد أعمار بعضهم تتجاوز العشرة أعوام إلا أنهم يدركون الفارق مثلاً بين “المستعربين”، و”المستوطنين”، و”الجنود”، و”المخابرات”، أو بين أنواع سيارات الاحتلال، فهذه سيارة مخابرات، وتلك سيارة شرطة سير، وذلك جيب عسكري. ولا ينسى الطفل وجه من يهدد أمنه وينكل به، فتراهم يحفظون أسماء المحققين ويدخلون في نقاش مع أقرانهم بعنوان “أي المحققين أسوأ: يوسي، طلعت، أم موشيه؟ أي مراكز التحقيق أسوأ: المسكوبية، شرطة البريد، أم القشلة؟”.

وهكذا خلق واقع المواجهة المستمرة والمباشرة مع جنود الاحتلال وعياً سياسياً مبكراً لدى أطفال المدينة المحتلة. قد يقول البعض متألماً أنه سلبهم طفولتهم وألبسهم حلة الرجولة والمسؤولية قبل أوانها، إلا أن آخرين يرون أن هذا الوعي المبكر “ضروري قبل أن تقع الفاس في الرأس لأنّ الكلّ مستهدف”.

بعيداً عن هذه الثنائية، لا يمكن اغفال الجانب الشّعوريّ والنّفسيّ لدى الطفل المعتقل أو اخوته وأصدقائه، وتأثير ذلك على حياتهم. على سبيل المثال، يلجأ كثيرٌ من الأطفال إلى إخفاء مشاعر الخوف بالذات، ويتقمصون شخصية “البطل” الذي لا يرهبه بطش الاحتلال، والذي لا تؤثر عليه همجية المحقق والجندي. كما أن آخرين يرفضون التحدث لأمهاتهم عما حصل معهم في التحقيق، ويفضلون الانعزال والصمت.

وقد تزايد في الأشهر الأخيرة اعتقال الأطفال في القدس المحتلة. وتشير تقديرات محليّة أن هناك ما يقرب من 250 فلسطينياً تحت الثامنة عشرة من أعمارهم تم اعتقالهم في القدس منذ مطلع تموز الماضي، أفرج عن كثير منهم بكفالات مالية وأحكام بالحبس المنزلي لبضعة أيام.

وبحسب القانون الإسرائيلي المفروض على المدينة المقدسة، فإن سنّ المسؤولية الجنائية هو الثانية عشرة من العمر، أي أنّه لا يمكن اعتقال أي طفل لم يبلغ الـ 12 من عمره. إلا أن هذه القوانين موجودة في كراسات الحقوقيين وطلاب القانون فحسب، وهي مجرد نص بليغ يفقد بلاغته في حال استشعر “الإسرائيلي” المحتل تهديداً لأمنه، حتى وإن كان “المهدد” طفلاً لم يجتاز المرحلة الابتدائية من المدرسة.

 نشر المقال سابقاً في صحيفة العربي الجديد:

http://www.alaraby.co.uk/society/3372a5af-6b9f-4f5a-9339-43cd6a925419

أضف تعليق